حينما ننبه على ضرورة الحذر من مخططات التشظي الهوياتي، فإننا نعني بالأساس المخططات الاستئصالية التي تسعى إلى استغلال الغنى والتنوع اللذين يميزان الهوية المغربية، في إطار الوحدة والانسجام والتلاحم المجتمعي الذي ينعم به المغرب، في ظل الدين الإسلامي الذي يشكل عاملا أساسيا لوحدة المغاربة واجتماعهم، بغية تحويل هذا التنوع من عامل ثراء وغنى إلى عامل بلقنة و تشرذم وتشظي، وهنا نستحضر بالأساس ما تعانيه مجتمعات وشعوب ودول شقيقة أخرى، من ويلات ومشاكل وأزمات، بسبب الدخول في متاهات الفتن والبلقنة سواء الطائفية أوالمذهبية أو العرقية، كما نستحضر المخطط الاستعماري من وراء إصدار ظهير 16 ماي 1930 الخاص بالأعراف الأمازيغية في عهد الحماية، ومحاولاته المتكررة والدؤوبة لإعادة إحيائه وبعثه من جديد، بصيغ ملتوية.
وحينما نتكلم عن ذلك باعتباره خطة استئصالية يائسة في لحظاتها الأخيرة والمعاكسة لإرادة وحركة الشعوب والتي نتوقع لها الفشل الذريع كما فشلت المحاولات السابقة، فإننا نستحضر جيدا مخططات الاستئصاليين ليس فقط في حروبهم الشعواء ضد التدين والمتدينين، وهَوَسِهِم بسياسات تجفيف المنابع، وإنما كذلك تجاه كل ما له علاقة بالهوية الإسلامية أو الأخلاق والقيم الإسلامية.
وفي هذا الإطار نجد أن الاستئصاليين وبعد أن عملوا ما في وسعهم و جهدهم لمحاولة اجتثاث كل ما هو قيمة دينية أو أخلاقية من المجتمع، معتمدين في ذلك على ركوب الموجة العالمية التي يعيشها الغرب باسم الحداثة، ومستندين على نظريات كثيرة كنظريات النهايات، أي نهاية الدين، ونهاية الايديولوجيا، ونهاية التاريخ مثلما ذهب إليه الفيلسوف الأمريكي فوكوياما صاحب نظرية نهاية التاريخ، حين أعلن انتصار الغرب وتربع الليبرالية والسوق على عرش العالم، ونهاية الصراع التاريخي الطويل لصالح القيم الغربية، وكأنه يريد من جميع المنظومات الحضارية الأخرى أن تسلم بأنه لم يعد أمام العالم من خيارسوى أن يأخذ بأيديولوجية الغرب التي غدت وحدها قائمة في الميدان، وأن أي أيديولوجية أخرى تتجاسر على تقديم بديل للغرب فمصيرها الزوال، وأي محاولة للمقاومة ما هي إلا محاولة يائسة للوقوف أمام التاريخ.
وانطلاقا من هذه الخلفية الفلسفية، استغل الاستئصاليون تأثيرهم على وسائل الإعلام العمومية، وعلى المهرجانات الفنية والسينمائية، وحشدوا الإمكانات الهائلة المادية والمعنوية، ورصدوا الميزانيات الضخمة، لمحاربة القيم الأخلاقية والدينية للمجتمع، والعمل على نشر ثقافة الانحلال والميوعة، وإشاعة العبثية واللامبالاة، تحت عنوان "انعدام الغاية يبرر الوسيلة".
وقد كان الاستئصاليون يضعون نصب أعينهم النموذج التونسي، كنموذج للنجاح في تجفيف منابع التدين، ومحاصرة القيم الأخلاقية والدينية، إلا أن فشل هذا النموذج وانهياره بذلك الشكل الدراماتيكي الذي رأينا، أعطى الدليل القاطع على استحالة اجتثاث القيم من المجتمع، واستحالة اقتلاع هذا المجتمع من ثقافته الدينية ومنظومته القيمية والأخلاقية.
ولعل انهيار النموذج التونسي لم يكن المثال الوحيد، وإنماسبقه النموذج التركي الذي يعد مثالا بارزا جدا على فشل حقيقي لمحاولة اجتثاث المجتمع التركي المسلم بأكمله واقتلاعه بالقوة والسلطة من جذوره الدينية الإسلامية، إلا أن هذا المجتمع أثبت بالواضح والملموس أنه لا السلطة ولا مرور الزمن والسنين ولا ولادة أجيال جديدة، تربت في ظل هذا النموذج وتحت عينه، تستطيع أن تنسيه في جذوره وأصوله، أو في دينه وقيمه.
ولئن كان تجذر ثقافة المقاومة والممانعة ورسوخها وانتشارها، خاصة في عصر الصحوة الإسلامية، وفي ظل الثورة الاتصالاتية وانتشار القنوات والفضائيات وشبكة الأنترنيت، قد أثبت استحالة الاجتثاث القيمي للمجتمعات الإسلامية، وبالتالي فشل الرهان على استهداف القيم والأخلاق، فإن الاستئصاليين لا تعوزهم الحيلة، ولا يعدمون الوسائل والمخططات للوصول إلى أهدافهم، ولذلك فإنهم بعد فشل مخططهم في استهداف القيم بدأوا يراهنون على استهداف الهوية أو ما يمكن تسميته بمخطط التشظي الهوياتي. وذلك من خلال محاولة ضرب وحدة الهوية أو الهوية الموحدة للمجتمع المغربي، من خلال إغراق النقاش بالحديث عن أكثر من هوية وأكثر من مكون وأكثر من انتماء، وأكثر من لغة، والعمل على تمييع النقاش حول القضايا الكبرى المتعلقة بالهوية وتعويمها، بعد أن تبين صعوبة تجاوز نقاش الهويةبالمرة، وهنا يمكن رصد المسألة على ثلاث مستويات:
المستوى الأول يتعلق بمكانة الدين الإسلامي في الهوية المغربية، من خلال الدعوة إلى التعامل معه ليس باعتباره الأساس الذي قامت عليه الدولة المغربية، وأساس توحدهم واجتماعهم، وأساس حضارتهم وإشعاعهم، وأساس مواجهتهم للشدائد والأزمات، سواء في مواجهة المستعمر تحت راية الجهاد، أو مقاومة مخططاته، كالظهير البربري الذي استهدف تفريق الوحدة واللحمة بين العرب والأمازيغ، وإنما كرافد فقط من الروافد الكثيرة والمتعددة التي يجب أن تكوِّن الهوية المغربية.
المستوى الثاني يتعلق بقضية الانتماء للعالم العربي والإسلامي، حيث لا يراد لها أن تكون بمثابة العمق الحضاري والاستراتيجي للمغرب، ولا أن تكون علاقة العضو بالأمة، وإنما أن تكون العلاقة بين الدول العربية والإسلامية مجرد علاقات دولية، مثلها مثل العلاقات مع بقية الدول الأخرى، ولذلك تتم محاولة تمييع النقاش بالحديث عن أكثر من انتماء، تارة عن الانتماء للمغرب العربي الكبير، وتارة لبلاد تامزغا، وتارة لإفريقيا، وتارة لحوض المتوسط، وتارة عن الانتماء الكوني.
المستوى الثالث يتعلق بمكانة اللغة العربية، التي بعد أن فشلت كل محاولات اجتثاثها وتعويضها بالفرنسية، تتم الآن محاولات للتشويش عليها وعلى مكانتها، من خلال اللجوء إلى الحديث تارة عن ترسيم الدارجة وتارة عن تشجيع اللهجات، وتارة أخرى عن دسترة أكثر من لغة رسمية، بهدف ضرب اللغة العربية أو على الأقل التشويش عليها، ليس فقط كلغة موحدة للمجتمع المغربي، وإنما كرابطة له بعمقه الاستراتيجي والحضاري الممتد في العالم العربي والإسلامي على أوسع نطاق جغرافي وتاريخي.
والخلاصة أن كل هذه السياسات الاستئصالية والتغريبية إنما تهدف إلى اقتلاع المغرب من محيطه العربي والإسلامي، وتحويله إلى تجمع بشري صغير، ودولة ضعيفة، يسهل الاستفراد بها، وتذويبها ومسخها حضاريا، في تجاهل تام وتنكر واضح لدور المغرب وإشعاعه الحضاري الإقليمي، ولتاريخه الطويل.
لذلك وجبت دعوة العقلاء وأصحاب الرشد في هذه الأمة إلى اليقظة والحذر من خطورة هذه المخططات، وأن يقوم الجميع ضد هذه المحاولات الساعية لتكريس التشرذم أو التشظي الهوياتي، الذي سيكون له بالغ الخطر على والمجتمع المغربي والدولة المغربية، والتي لن تستطيع البقاء قوية إلا بتقوية مكانة المرجعية الإسلامية واعتبارها ثابتا من ثوابت الوحدة وليس فقط مجرد رافد من روافد الهوية.المهندس محمد الحمداوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق