مغربة شهادة التبريز


  تقترن شهادة التبريز في فرنسا، منبتها التاريخي، بالموسوعية والخبرة والتخصصات العالية، لذلك فالمبرزون هم عماد التعليم الفرنسي بجميع شعبه وتخصصاته ومستوياته، فهم ممارسون مهرة في الميدان، وخبراء مخططون للسياسات التعليمية، وإداريون مجددون، كان هذا منذ ما يفوق القرنين، لكن في المغرب ترتبط شهادة التبريز بأشكال متعددة من التجاهل أفقدت هذه الفئة النخبوية من الموظفين لميزات التي لأقرانهم في فرنسا وتونس، صحيح أن الدولة المغربية استعانت في عشر سنوات الأخيرة، بعدد محترم من الأساتذة المبرزين وأسندت إليهم مهام إدارية مركزية وجهوية وإقليمية محترمة، لكنها تتجاهلهم كإطار، يكفي أن نقول إن مديريات على المستوى المركزي ك» مديرية التعليم التقني« و » مديرية الجودة« و» مديرية التجريب والتجديد التربوي« والمفتشية العامة للمالية بالوزارة« يديرها أساتذة مبرزون ...، ناهيك عن مديري أكاديميات ونواب إقليميين ومديري أرقى مدارس الهندسة والإدارة..، أضف إلى ذلك أنهم حاضرون في كل مستويات التدريس، بدءا من التعليم الثانوي التأهيلي إلى التعليم التقني العالي ومدارس تكوين الطر، ومساهماتهم متميزة لا ينكرها أحد ، باختصار إنهم نخبة التعليم بالمغرب ..
رغم كل هذا التميز الوظيفي والمعرفي، فإن الأستاذ المبرز في المغرب ما زال يلقى تجاهلا تاما من طرف الدولة، بسبب اللوبيات التي تشكلها بعض الفئات من الموظفين ضده، مع أن أستاذا مبرزا واحدا، قادر على القيام لوحده بعمل ثلاثة أساتذة في الجامعة، أي أنه قادر بجدارة على القيام بمهام الأستاذ المساعد والأستاذ المؤهل والأستاذ الجامعي، وإذا كانت وزارة التربية الوطنية تتجاهل هذه الحقيقة، فإنه في فرنسا وتونس نجد أن المبرز مثلا يحظى بتعويضات أكثر مرتين من التعويضات التي يحظى بها الأستاذ الجامعي ..، لأنه قادر على إنجاز الدروس والأعمال التوجيهية والعمال التطبيقية ...
عندما تم الشروع في تكوين المبرزين في المغرب سنة 1988 كان الغرض من ذلك هو تكوين أساتذة ذوي كفاءة معرفية وبيداغوجية عالية، لذلك كان المبرز يعين أوتوماتيكيا في الأقسام التحضيرية أو في مراكز التكوين، وتشرف على المباراة الوطنية لجنة مشتركة من أساتذة مغاربة وفرنسيين وتصحح أوراق التحرير بفرنسا، وبالتالي تكون فرص النجاح ضئيلة جدا، وهذا مؤشر على نخبوية الشهادة، والدليل هو أنه على مدى أربع سنوات الخيرة لم ينجح أي طالب في تخصص علوم المهندس « is » ولم يتجاوز عدد الناجحين في تخصصات الرياضيات أصابع اليد الواحدة..
بلغ عدد الأساتذة المبرزين في المغرب الآن 1300 أستاذ، غير أنه في ظل استمرار غياب قانون أساسي خاص بالمبرزين ، والآفاق المهنية والتربوية والعلمية ، والتقاعد والتعويضات المادية عن الإطار، فإن عدد المترشحين لمباراة ولوج سلك التبريز في تناقص مضطرد، لكون هذه الشهادة في المغرب لا تشكل محفزا على المستوى المهني، بل تشكل مغامرة بكب ما تحمل الكلمة من معنى، يدفع ثمنها اليوم عدد كبير من خيرة الأطر المغربية ، منهم من أرسل في إطار » آخر من التحق« لثانويات قروية يعملون تحت إمرة أطر تربوية حصلت على الإقرار » بالأقدمية« بعضهم بالكاد حاصل على شهادة البكالوريا، ومنهم من لا يزال يعمل 20 ساعة أسبوعيا تماما كما كان قبل حصوله على شهادة التبريز، ونظرا لكل هذه الاعتبارات فإن امتحان ولوج السنة الثانية من سلك التبريز في مواد الفلسفة واللغة العربية مثلا، ثم تعليقه لسنتين متتاليتين، لكون عدد أساتذة السلك الثاني الذين تقدموا للامتحان سنة 2008 لم يتجاوز في الامتحان الكتابي بمكناس 6 مترشحين عن كل مادة، مع ان حاجيات منظومة التربية والتكوين للمبرزين اليوم، من هاتين المادتين وغيرهما سواء في مدارس تكوين الأطر أو في مدارس التقنيات والهندسة هي هي حاجيات كبيرة جدا... لأنه في ظل الوضعية السابقة أغلب فأغلب المدرسين الطموحين والنشطين في التعليم الثانوي يفضلون امتحانات »الكفاءة المهنية« لترقية وضعيتهم الإدارية والمالية على المغامرة بالترشح لسلك، يخضع فيه التكوين لشروط دولية صارمة والتعيين لشروط مغربية متراخية ...
الآن هنا أو شهادة التبريز وقد تمت مغربتها، فإدماج المغرب لشهادة التبريز للتعليم الثانوي على غرار»الخالة فرنسا« في صلب التكوينات العالية والتقنية والمهنية والتسيير الإداري، كان يقظة وعي تحسب له، ومكسبا لمنظومة التربية والتكوين ككل، غير أن ازدواجية تعامل وزارة التربية الوطنية مع حاملي هذه الشهادة الهليا، يجعلها شبيهة بالمثل الريفي الشهير »طلع للكرمة نزل شكون لكالها ليك«. إذ إن بعض الإصلاحات الأساسية يجب أن تبادر الوزارة إلى تطبيقها من أجل حماية وتطوير الهدف النخبوي لشهادة التبريز التي ابتكرها اختصاصيو القضايا التعليمية بفرنسا، ومن بينها العمل الحثيث على تكوين لجان تعليم وتحكيم مشتركة بين الخبراء الفرنسيين والمغاربة خلال تكوين الأستاذ المبرز، ومنح أولوية التعيين بالمؤسسات العليا للمتفوقين، فضلا عن فسح فرصة متابعة الدراسة بسلك الدكتوراه للأساتذة المبرزين الراغبين في استكمال المسار الجامعي، وهذا ما يفرض معادلة شهادة التبريز لشهادة الماستر، ، علما ان آلية تعيين الأساتذة الجامعيين يتم الحصول عليها بعد اجتياز مباراة لفائدة الحاصلين على شهادة الدكتوراه الدولة، بخلاف الدول المتقدمة التي تعتمد على شهادة البروفيسوراه التي يجتازها دكاترة الدولة المتفوقون قياسا إلى مساراتهم الجامعية برمتها، ففي الوقت الذي نجد فيه أساتذة مبرزين يجتازون امتحان التخرج مرات ومرات ليحصلوا على هذه الشهادة، بعد سنوات من الرسوب، فإن تاريخ الجامعة المغربية لا يسجل أي حالة لباحث جامعي راسب في نيل شهادة الدكتوراه، فالكل ينجح وبميزات أقلها  "حسن".

المصطفى مرادا جريدة المساء المغربية