التمرد الذي تعيشه هذه الأيام سجون حفيظ بنهاشم، أحد بقايا جلادي سنوات الرصاص، بسبب انتفاضة سجناء ما يسمى بالسلفية الجهادية، يطرح علينا جميعا سؤالا أخلاقا وإنسانيا قبل أن يكون قانونيا.
إذا كان الملك شخصيا قد قال في حواره الصحافي مع جريدة «الباييس» الإسبانية إن محاكمات المتهمين في ملفات الإرهاب شابتها تجاوزات، فلماذا بعد مرور ثمان سنوات على اعتقال كل هؤلاء السجناء لم يراجع القضاء ملفات هؤلاء الآلاف من السجناء الذين ملأ بهم الجنرال العنيكري وزبانيته سجون المملكة.
نحن هنا لا نتحدث عن المعتقلين الذين تورطوا في جرائم دم، بل عن مئات المعتقلين الآخرين الذين جرفتهم الحملة في طريقها، ووجدوا أنفسهم متابعين بقانون الإرهاب الذي لا أحد اليوم يعرف سبب بقائه.
فهناك معتقلون يقضون عقوبات بالإعدام يطالبون اليوم إما بمراجعة ملفاتهم أو تنفيذ حكم الإعدام فيهم. وهناك آخرون محكومون بالمؤبد أو بمدد تتراوح ما بين عشرين وثلاثين سنة يرتمي بعضهم من سطوح السجن، وآخرون يضرمون النار في أنفسهم. فماذا تنتظر وزارة العدل لكي تفتح هذا الملف وتصحح تجاوزاته وتغلقه إلى الأبد؟.
إن أول شيء كان يجب أن يحدث بعد خطاب الملك يوم 9 مارس هو إسقاط هذا القانون، الذي يطلق يد الأجهزة الأمنية والقضائية بحرية كاملة لاعتقال المشتبه فيهم والاحتفاظ بهم رهن الاعتقال خارج الضوابط القانونية.
ومثلما سقط قانون الطوارئ في مصر والجزائر، كان يجب أن يسقط قانون الإرهاب في المغرب، لأن الجميع يعرف الظروف التي تم فيها تمرير هذا القانون في البرلمان والتصويت عليه بالموافقة تحت ضغط الحملة الإعلامية، التي نظمها الجنرال العنيكري وساهمت فيها جريدة «الأحداث المغربية» والقناة الثانية على عهد نور الدين الصايل ومجلة «تيل كيل» على عهد مديرها بنشمسي بشكل واسع. فقد كانت أمريكا بحاجة إلى تفويض تعذيب واستنطاق معتقليها خارج الأراضي الأمريكية لبلدان أخرى حتى لا تتناقض مع قوانينها الفيدرالية التي تحرم انتزاع الاعترافات تحت التعذيب. ومن هنا جاءت فكرة صياغة قانون للإرهاب يعطي الدول التي ستستقبل معتقلي أمريكا الحق في إطلاق يد أجهزتها السرية لتعقب واختطاف وتعذيب المشتبه فيهم بحرية تامة، واستعمال هذا القانون لاستقبال معتقلين أجانب في أقبية المعتقلات السرية، وأبرزها معتقل تمارة السري الذي يشرف عليه عبد اللطيف الحموشي، «الخبير» في انتزاع الاعترافات تحت التعذيب من معتقلي الحركات الإسلامية.
وطيلة وجود رجل أمريكا في المغرب، الجنرال العنيكري، على رأس أجهزة الأمن والمخابرات، ظل معتقل تمارة السري يستقبل بانتظام رحلات جوية لطائرات أمريكية تحمل على متنها سجناء من جنسيات مختلفة ينزلون في عهدة الحموشي ورجاله الذين تلقوا تكوينا أمريكيا عاليا لتعلم أكثر الطرق فعالية لانتزاع أشد الاعترافات جنونا وخطورة.
وإذا كان أغلب الحقوقيين والسياسيين وشباب حركة 20 فبراير متفقين على ضرورة الشروع في إعادة محاكمة المعتقلين السياسيين وسجناء ما أطلق عليهم العنيكري وآلته الدعائية تسمية «السفلية الجهادية»، فإن كثيرا منهم لا يريد أن يصارح الرأي العام حول ظروف «صناعة» هذا الملف وهويات مهندسيه وأهدافهم المبطنة من وراء شن كل تلك الحملة الواسعة لاعتقال كل تلك الآلاف من المتهمين وتعريضهم لشتى أصناف التعذيب والزج بهم في السجون والمعتقلات.
إن الجواب عن هذا السؤال المحير يمر بالضرورة عبر تقديم الأجوبة الواضحة والكاملة للغز أحداث 16 ماي الإرهابية التي لم تصدر بشأنها الداخلية أي تقرير نهائي إلى حدود اليوم.
هذه الأحداث الأليمة، التي خلفت كل هذا الكم من العائلات المحطمة، تطرح أسئلة كبيرة على فؤاد عالي الهمة، الذي كان حين وقوعها وزيرا منتدبا في الداخلية، والجنرال العنيكري الذي كان حينها مديرا عاما للإدارة العامة للأمن الوطني.
نعم لقد كان المغرب يعيش مثل كثير من الدول تهديدات إرهابية، حيث شارك مغاربة في حروب خارج حدود بلادهم اعتبرها الغرب إرهابا، لكن هذا الخطر تم تضخيمه بشكل غير عادي وتم استغلاله لتصفية الحسابات بين الأجهزة، وللتحكم في الخريطة السياسية.
واليوم أكثر من أي وقت مضى، يبدو من الملح تحديد المسؤوليات في هذا الملف، الذي يعترف الجميع بوقوع تجاوزات قضائية فيه. وهي مسؤوليات تتوزع بين «أبطال» هذا الملف، الذين استغلوا الظرفية التي كان يمر منها العالم بعد 11 سبتمبر لتصفية حساباتهم السياسية وإشاعة جو من الرعب بقانون الإرهاب الذي يعطي الدولة الحق في اعتقال كل من تشك في صلته بالخلايا الإرهابية التي أصبحت، خلال فترة من الزمن، تتناسل في المغرب مثل الفطر.
ولعل الشخصين اللذين يجب أن يمثلا أمام لجنة لتقصي الحقائق لكي يجيبا عن أسئلة المحققين في هذا الملف هما فؤاد عالي الهمة والجنرال العنيكري، الذي هندس الحملة من أولها إلى آخرها وحشد لها الدعم الإعلامي بفضل «المجهود» الجبار الذي قامت به القناة الثانية وجريدة «الأحداث المغربية» ومجلة «تيل كيل»، التي لم يتورع مديرها عن كتابة افتتاحية أفتى فيها بجواز تعذيب معتقلي السلفية الجهادية إذا كان ذلك سيفيد الأمن في الحصول على اعترافات.
لقد شهدت موائد فندق «روايال منصور» جلسات مطولة جمع حولها العنيكري «خلية» إعلامه من أجل «بيع» بضاعته الجديدة في وسائل الإعلام وإقناع الرأي العام بأن المغرب يغرق في الإرهاب حتى الأذنين. وإلى اليوم لازال الجميع يتساءل كيف استطاع فريق الأخبار بالقناة الثانية استباق الأحداث والحضور إلى فندق فرح دقائق قليلة بعد حدوث التفجيرات، حيث كانت قناة نور الدين الصايل الوحيدة التي تمتلك الصور التي بيعت حقوق بثها إلى كل قنوات العالم.
والواقع أن العنيكري والصايل كانا ينسقان إعلاميا بشكل يومي من أجل مواكبة ملف التفجيرات، و كذا الاعتقالات التي تلته، والمحاكمات الخاطفة التي أرسلت المتهمين إلى السجون التي أفرغها الراحل بوزوبع لكي تستقبل الآلاف منهم، قبل أن يتسابق للدفاع عنهم محامون معروفون بقربهم من أجهزة المخابرات، لعبوا دور «المغرق» عوض أن يلعبوا دور المحامي، كزهراش ومحمد زيان الذي طالبت عائلات بعض المعتقلين بإلغاء إنابته بعد اكتشافها الجهة الحقيقية التي يدافع عن ملفها.
وعندما نرى كيف انتهى عبد الفتاح زهراش «مناضلا» في حزب الهمة، بعدما طرده رفاقه من حزب الطليعة، نفهم أكثر طبيعة الأيادي التي كانت تشرف على الدفاع عن ملف المعتقلين الإسلاميين.
وجزاء له على تعاونه، منح الجنرال العنيكري بطاقة COUPE-FILE التي تسمح لسيارة حاملها باختراق جميع الحواجز، حتى لو تعلق الأمر بحاجز يهم الموكب الملكي.
ولكي يوهم العنيكري رجال كتيبته الإعلامية وحاملي مسدسه بأن أسماءهم موجودة على قائمة المطلوبين من طرف الإرهابيين، عمد إلى ترويج لائحة بأسماء صحافيين ومسؤولين ومستشارين ووزراء معرضين لخطر التصفية الجسدية من طرف الجماعات الإرهابية.وذهب الأمر بالعنيكري، المهووس بهواجس الإرهاب، إلى حد تخصيص حارسين شخصيين مسلحين لمدير القناة الثانية نور الدين الصايل، لا يفارقان ظله أينما حل وارتحل. كما صرف العنيكري على الفيلا التي يقيم بها أكثر من خمسين مليون سنتيم فقط على كاميرات وأجهزة المراقبة الإلكترونية المتطورة.
أما جريدة «الأحداث المغربية» فقد لفق لها طردا مخففا لإيهام الرأي العام بخطورة الوضع وطمعا في استرجاع مصداقيتها، خصوصا بعدما تعرضت سمعتها لضربة قاسية وتراجعت مبيعاتها بشكل مهول.
لقد ساهمت هذه «الحملة» في تقليم أظافر حزب العدالة والتنمية، وجعلت قيادته تقبل بتقليص مشاركتها في الانتخابات، كما أجبرت الحزب الإسلامي على الانحناء أمام العاصفة الهوجاء التي كادت تقتلع جذوره، خصوصا بعدما دخل بعض زعماء الأحزاب السياسية على الخط وأصبحوا يطالبون صراحة بحل حزب العدالة والتنمية، وأبرزهم محمد اليازغي الذي لم يتورع عن المطالبة بذلك صراحة. لكن الحزب استطاع أن يصمد، رغم السعار الذي أصاب العنيكري والهمة وخلاياهما الإعلامية التي انتظمت في ما سمي آنذاك بـ«جبهة الاستئصال»، التي كان هدفها المعلن هو اجتثاث العدالة والتنمية.
وهو المشروع الذي استمر مع تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة وعبر عن برنامجه إلياس العماري في آخر حوار معه عندما قال إن معركتهم هي محاربة «أسلمة» المجتمع المغربي، متناسين أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة المغربية، وأنهم عندما يدعون إلى محاربة ما يسمونه «أسلمة» المجتمع المغربي فإنهم يهاجمون إحدى الركائز الأساسية التي تنهض عليها بنية الدولة المغربية.
اليوم هناك حاجة ضرورية وعاجلة لإعادة فتح ملف هؤلاء المئات من المعتقلين، الذين يعيشون اليوم ظروفا نفسية وصحية وعائلية صعبة للغاية. من حق هؤلاء السجناء أن يحظوا بمحاكمة عادلة لإنصاف المظلومين منهم وتعويضهم عن سنوات الظلم التي عاشوها وراء القضبان من أجل تسهيل اندماجهم في الحياة العادية خارج أسوار السجن.
إن من يربط بين إطلاق سراح معتقلي ما يسمى بـ«السفلية» المظلومين، وبين احتمال تعريض الأمن العام للخطر، يجهل أن تطبيق القانون بشكل عادل ومستقل هو الضمانة الوحيدة للحفاظ على الأمن العام. أما الظلم والاحتجاز والإقصاء فهي التوابل الضرورية للإرهاب، بل هو الإرهاب بعينه.
رشيد نيني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق